الثلاثاء، 2 مارس 2010

سفرٌ ما في طريقٍ ما !


تحت السماءِ المليئةِ بغيومٍ زرقاءَ !؛ ونهرٌ من تحتهِ يجري ، آثارُ المطرِ على الاسفلتِ ، على الجانبِ الآخرِ يسيرُ  الناسُ في اتجاهٍ عكس اتجاهه على أرضٍ رمليةٍ ، يفصلُ بينه وبينهم إفريزٌ في منتصفِ الطريق ..

ينظرُ إلى ذاته ليجدَ أنه بنصفهِ العلوي العاري ويلبسُ بنطالاً مشمرًا حتى منتصف قدمه وفي يديه زجاجةٌ امتلأَ نصفُها ، ينظرُ الي نهايةِ الطريقِ ، يتهللُ قلبُهُ فرحًا فيسعى إلي الأفق ! ..

لكن الشعور الممض بالاحتراقِ يمزقُ صدره ، كأن نارًا إتـقـدتْ فيه ، لن يتمكنَ من السيرِ حاملاً تلك النارِ التي تزدادُ ببطء ، الأرضُ باردةٌ تحت قدميه الحافيتين ، يرتمي على الأرضِ الباردةِ المبللةِ قليلاً ، يشعر بالارتياحِ عندما تسللتْ البرودةُ الي عظامه وأخفتْ ذلك الشعور المُلهِب..

يواصلُ السيرَ في اتجاهِ النورِ المنبعثِ في نهاية الطريق ، ياله من نورٍ أبيضَ شفافٍ يذكره بنور غرفته ( النيون ) وإن كان الأولُ يكادُ أن يستويَ شكلاً في كل ثانيةٍ ، ذكره بالسحابِ الأبيضِ في أيامِ الصيفِ الذي يكرهُـه حين يتخذُ أشكالاً عبثيةً لكنه يراها ذات معنىً دائمًا !!

مازال يمشي بخطواتٍ قصيرةٍ سريعةٍ ، يجرع من الزجاجةِ التي يحملها ، ينتشي ويواصلُ رحلتـَه وهو مستمتعٌ  رغم السيرِ المرهقِ ، وإذا به فجأةً يرى تلك الفتاة التي برزتْ له من جانب الطريق ، عيناها البنيتان الواسعتان تذكرانه بشيءٍ ما ، وقوامها الرفيعُ ونهدها البارز ، تمشي جواره دون أن تنبس بننت شفة ،فيتسللُ إلي روحهِ شعورٌ غزيرٌ لم يعرفْه من قبل !..

يتحدثانِ وهما سائران ، فتتأبطُ ذراعهُ فيشعرُ بأن الرحلة قد تأخذُ منحىً آخر، قلقٌ عارمٌ يمزقهُ تزايد مع ظهور الفتاة ، أحسَّ بأنها تثقل خطوه ، أخذ يحدِثُ ذاته عن روحِها البليدة التي تثقله ،- تبا- !

فاذا به ينـزِعُ يدها برفق ، نظرتْ اليه معاتبةً بعينيها القاتلتين..لم يكترثْ وحاول إبعادها، وانتهى به الأمر أن دفعها على جانب الطريق ! ..

 فاذا بها تنقض عليه وتغرز أظافرها في ذراعه وصدره ؛ أبعدها عنه وشعر بالألم يجتاح مواضعَ أظافرِها على جسده ، وقعتْ على جانب الطريق وفي عينيها تلك النظرة المعاتبة التي غارتْ بروحه الى الأبد !

وبعد سير طويل ، والنورُ آخذٌ في الاقتراب ، وكلما اقترب أكثر زاد قلقه حدةً حتى كاد يوقفه ،وعلى الجانب الآخر من الطريق نظر ليرى الناس مايزالون في رحلتهم في الاتجاه المعاكس !..

سمعَ امرأةً تنادي على إبنها بصوت جهوري وتعجب من أن يصدر من امرأة،صوتها العالي يجبره على أن يصم أذنيه ، صوتها يعلو وهو يضغط على أذنيه أكثر ، وكلما عَلى صوتُها يضغطُ أكثرَ وأكثرَ، حتى كادتْ أن تحطمَ أعصابه..

-إصمتى يا امرأة عليكِ اللعنة-!

 أسرعَ الخطوات وجرع جرعةً أخرى من زجاجته التي ظلَّ متشبثًا بها منذ بداية السير وصوتُ المرأةِ يخفت ، وهو يبتعد حتى اختفى تقريبا ؛ ثم عاوده احتراق صدره المؤلم نظر اليه لا إراديًا ليجد آثارًا داميةً يشعرُ بألامها كلما اصطدمَ الهواءُ بصدره العاري !

يتناسى الألم ويحاول التسامي فوقه حين ينظرُ أمامه إلى الأفقِ كأنما النورُ يناديه : أن تعال ! ..

على مرمى بصره يرى أطفالاً يركضون نحوه آتين من جهةِ النور ، يبتسمُ رغمًا عنه ، ويسرعُ نحوهم ، يتقافزون حوله بملائكية ، يبطءُ من سرعةِ سيره ، ينحني ليداعبهم ويلثمهم ، يمدُّ أحدهم ذراعيه نحوه فيحمله وهو يضحكُ بصوتٍ عالٍ ! ..

أشفقَ على بقيتهم فحملهم جميعًا على ذراعيه وكتفيه ، وهم يتضاحكون ويتقافزون عليه ويعبثون بشعره وأذنيه ويلثمونه ، سار بهم وقرر أن يكمل بهم الى النهاية !

تظهرُ امرأةٌ شابةٌ على الجانب الآخر تشير اليه فيتجه الأطفال بأنظارهم اليها ، فَهِمَ من لهفتهم ونظرة عينها أنها أمهم ، فأنزلهم وربّت عليهم وهم يجرون في مرح ناحية الجانب الآخر ، حضنتهم الأم ونظرت اليه بامتنان ، شعر بالغبطةِ بينه وبين ذاته ومضى مكملاً ..

هاءَ له النور على مسافةٍ غير بعيدة وفَرِحَ كأنما تذكرَّ فجأةً أن هذا هدف سعيه من البداية ، جرع جرعةً كبيرةً من الزجاجة ليهدأ انفعاله..

حاد عن الطريق ومشى على الافريز في المنتصف وقد أوشك أن يصل أخيرًا ، تأمل ذاته وأحسَّ أنه أفضل من أي وقتٍ مضى رغم الارهاق البادي عليه ..

ها هو أمام النورِ تمامًا كل ما تبقى أن يدخل فيه ، تبقتْ خطوتان فقط لا غير .. لكنه مرهقٌ ، ما بقى قليل انما يحتاج إلى مجهود أكبر مما سبق وهو لا يقدر عليه الآن قرر أن يرتاح قليلاً ثم يكملُ الخطوتين الباقيتين ..جلس على الأرض وأسند ظهره لجدار متهدم وجرع ثمالة الزجاجة ..

أحسَّ بنشوةٍ عارمةٍ في موقفه هذا .. فبعضُ خيوطِ النورِ تتسللُ إلى روحهِ  وتغسله من أي شيءٍ سواها !، تزايدتْ لديه الرغبة في النوم ليريحَ عينيه بعد السيرِ المرهقِ ، أراحَ جسدَهُ على الاسفلت وجعل ظهرَهُ للجدارِ وأسندَ رأسَهُ على يديه ورمى الزجاجةَ الفارغةَ ، نظر إلي النورِ الأبيضِ وابتسم ..

ثم راح في سُبـاتٍ عميق !!!

هناك تعليقان (2):

آخر أيام الخريف يقول...

رائع كالعادة يا مصطفى

مصطفى عبدربــه يقول...

أنتِ دائما أروع
:)

شكرا على مرورك